الجمعة، 22 مايو 2015

إنذار

إنذار

كانت تظن أنها تفوق جميع النساء ذكاءًا, كانت تظن أنها ستأتي بما لم تأتي به النساء قبلها, وأن حياتها مع زوجها الذي تحب ستكون حقًا مختلفة.
حذفت من قاموسها تلك الكلمات التى طالما سمعتها حين تشتكي النسوة من أزواجهن, وهي التى لم تجرب الزواج بعد, فلم تخوص تجاربه وأفراحه وآلامه, حذفت كلمتي الروتين والعناد, وكذلك المشاكل والخلافات, والوعود والخيانة , الاحتياج وألم الوحدة, نسيت وتناست القهر, الضعف, الحيرة, الغيرة, المشقة, الدنيا بما فيها, ووضعت نصب عينها الجنة, وهل هناك جنة على الأرض؟!

استيقظت ذات صباح والدموع تبلل وسادتها, والألم يحبس أنفاسها, بحثت عن أمها لكي تلقي إليها قولا يثقل كاهلها, لكنها لم تجدها, جاءت احداهن تقول باستنكار : "لماذا تبكين, ونحن نراكِ دائما من المبتسمين!"
نظرت داخلها, كان قلبها أشبه ببناية مهدومة, لم يتبق سوى طوب منكسر, وأحلام محبطة, وبقايا غرف عرفتها وافتقدتها, غرف يسكنها إخوتها الذين لعبت معهم ثم كبرت معهم, احتضنتهم فاحتنضنوها, تعاركت معهم ولم يجرحوها, فهموها وشاركوها, أيدوها ونصروها, لم يكن لديها شك فى حبهم لها, ولا فى حبها وإخلاصها لهم.
آه .. كم تفتقدهم فى هذه اللحظة, لربما لو كانت بينهم الأن لاستاءوا كثيرا لبكاءها, ليس لأنهم دائما ما يرونها مبتسمة كما قيل لها, لكن لأنهم يجهلون منبع كل ذلك الألم, وكيف يصرفونه.
اصطنعت ابتسامة وقالت مجاملة : "فقط أشعر بألم فى بطني, لا شئ مهم"
انتظرت منها فى المقابل أن تقول لها : " ما هذا اللاشئ ! أنت تشعرين بأسى, فقط تعالي وإجلسي بجانبي, وألقي عليّ ما أثقلك, وسأكون السند الذي تتمنين"
لكنها قالت لها بدلاً من ذلك : " حسنا, ما دام بطنك يؤلمك, فهو يوم شوربة الخضار ! "
تحولت حياتها بعد ذلك إلى سعادة بسبب طبخة أجادتها فأعجبت بها البطون, وإلى إحباط بسبب طبخة قد أكثرت من وضع الملح فيها أو احترقت أركانها, وإلى شوربة خضار بطعم المرض تتجرعها جرعة بعد جرعة لتتظاهر بأنها أصبحت أفضل.
لكن الحقيقة أن هناك أركان فى قلبها تشعر فيها بالخواء حقًا .. !!
*****
يا صديقي.. لقد وجدتني فوجدتك.. وضممتني فضممتك.. وألقيت عليّ حملك الثقيل فتحملتك, ثم جاء دوري فألقيت عليك آلامي وآمالي.. واشتكيت إليك طفلة قهرت ورأت فى قهرها سببًا لهروبها إلى عالم الخيال, حيث الأطفال تدلل, وتضحك وتلعب, ولا يشعرون بالذنب بسبب خطأ لم يرتبكوه, ولا يختبرون مرارة الحياة قبل أن ينضجوا ويصيروا 
جاهزين, ولا يحملون حملاً ثقيلاً قبل أن تشتد أكتافهم...
يلامسون السحاب كل ليلة, ويرقصون مع الشمس كل صباح !

لكنها بدلاً من هذا يا صديقي اختبرت مرارة الحياة صغيرة, وحملت – وحدها – حملا ثقيلاً, فبكت ثم بكت, فألهمها الله طريق الدعاء, فدعته أن يخفف عن هذا الكتف الصغير.. حتى وجدتك ووجدت فيك ضحكة الأطفال التى أذابت كل ذلك الجليد.
يا صديقي.. لقد غيرت عالمها مذ دخلت أنت فيه, وأصبَحَت تستيقظ صباحا لترقص مع الشمس –رغم أنها كبرت على ذلك- , وأصبحت لا تخشى الليل إذ أصبحت تخلد إلى النوم سريعًا دون أن يجلدها الليل سبعين جلدة, ودون أن يقذفها الناس -فى خيالاتها- بالحجارة.
يا صديقي.. لقد لونتَ معها أحلامها بألوان قوس قزح, ونسجتَ لها ثوبا من حرير حبك يحتويها حين تغيب, وصنعت لها سلمًا إلى السماء, كلما رأته شعرت أنها تستطيع أن تفعل أي شئ, وكل شئ.
ورغم ما اختبرته هى فى طفولتها إلا إنها أصبحت قوية, لا تكترث للعقبات, إنها تنضح أسرع من بنات سنها, ذلك لأنها تشعر أنه لا داعي لإنتظار الأخرين ليقرروا لها ذلك, فقد انتظرت كثيرًا حتى أدركت أنه لا هدية لمن لا يسعى, ولا مستقبل لمن حبس نفسه فى زنزانة الماضي, وأن الحزن لا يزيدها ذكاءًا, وأن الألم لن يزيدها شرفًا.
ثم جاء الأطفال الذين تمنتهم دومًا, احتضنتهم بقوة, بذلت لأجلهم –معك- كل ما تستطيع, لكنها لم تكن تعلم أن تلك الطفلة داخلها مازالت تتألم, لم تكن تعلم أن ذلك الألم سيغير فى قلبها الكثير.
*****
هل تعلمين كيف تصيرين أسعد؟ حينما تقررين ذلك.
لكنك حين تصبحين جزءًا من عالمهم, يصبح قرار سعادتك فى خزانتهم, وهم رغم أنهم يخبرونك كم هم فخورين بإخلاصك لهم, وأن محاولاتك الحثيثة - التى أرغموكِ عليها – لتنالي رضاهم عنك أحيانًا ما تنجحين فيها, إلا إنهم يذكرونك دوما –وعلى عدة نواحي- أنه ليس لديك الحق أن تصيري حرة, ذلك أنهم رأوا أنه يجب ألا تمتلكين قرارك, فحريتك تزعجهم, رغم أن حريتك هي ما تسعدك.
وعلى ما يبدوا أيضًا أنهم قد حددوا لكِ مسبقًا كيف لك أن تعيشي حياتك, بما فى ذلك : كيف تتكلمين وكيف تجيبين, ماذا تأكلين وماذا تلبسين, أين ستقضين إجازتك ومتى تكتفين, إلى أي مدى يجب أن تجتهدي وإلى أي مدى يجب أن تعتزي بنفسك.
لقد أصبحت كالأمة لديهم, رباه.. كم ترتجف يداك وأنت تكتبين ذلك, وكم يرتجف قلبك حين تقوليها, هل جننت! كيف تتكلمين هكذا فى حق أسيادك!
******
 روحٌ حرة تحلق فوق كل ذلك الحطام, تحلق فى عالم الخيال رغم أنها لم تعد صغيرة-, تتمسك بباقى ذكريات جميلة, ونجاحات استطاعت أن تحققها فشعرت حينها بالفخر والثقة.
روحٌ تستمد من سعادات الماضي ما تسعد بها فى أيامها الحاضرة, هي روحٌ حرة يا صديقي, حرة لأنها قررت أن تضئ, ولن تجعل مرارة الأيام تطفئها, هي بتلك البساطة : لن تنطفئ !
******
هذا هو الجزء الأصعب, حين تجدين ضوءًا يضئ باللون الأحمر تارة ويختفي تارة, وفى الخلفية صوت إنذارٍ يكاد من علو صوته أن تصم منه الآذان.
فى تلك اللحظة التى تدركين فيها أنك ضحيت بسعادتك وهي بالمناسبة أعز ما تملكين من أجل عيونهم, مبررة أن كل ما تمنيتيه أن يصبحوا بدورهم سعداء, لكنك –رغم ذلك- تفاجئين بهم يسيرون مسرعين بعيدًا عنك, يبحثون عن وجه لم تختفي منه الإبتسامة, وكلام برّاق رقيق, حتى أنتِ يا من تخليت عن سعادتك, أصبحتِ فجأة تهربين منهم, يجتذبك معاملة الغرباء لكِ, وتسعدك حقا كلمات كالتى تعرفينها : " يا إلهي كم أنت مفكرة عظيمة"
"كم أنتِ رائعة الجمال, ورقيقة المشاعر"
"أنتِ حقا تستحقين السعادة..! "

الضوء الأحمر يجئ ويختفي, وصوت الإنذار يخترق حوائط بنيتيها بنفسك, واتخذتيها سجنًا, وأطلقتِ عليها " سجني الجميل " , وهل هناك سجن جميل ؟!
تسألين نفسك : 
لماذا أشعر بكل هذا الإحباط؟ 
هل استحق السعادة حقا كما يقولون؟
لكني قد قررت أن أضحي لأجلهم لكي أراهم سعداء !
وهل أنا أصلا لست سعيدة ؟ !

وعندما تبدأين فى طرح تلك الأسئلة على نفسك, تنهار عليك حوائط سجنك, حوائط بنيتيها فى ساعات وأيام طوال وظلمتِ فيها نفسك بأن ملكتيها لبشر يعيرون ولا يغيرون, يأخذون ولا يشبعون, يتمنون ويرغبون, تنهار الحوائط فوق رأسك, لتشعرين ولأول مرة أنك لم تحسنين صنعا, فتصيبك حسرة بينما أنتِ مدفونة تحت ركام قراراتك الخاطئة, تؤلمك أكتافك من حملٍ كلفت به نفسك رغم أنك لا تستطيعين حمله, وينبض قلبك بقوة صارخًا فيكِ :
"لماذا حملتيني ما لا أستطيع؟ لقد عودتيني أن أكون ملكًا متوجًا, لم تخليتِ عني هكذا لأصبح عبدٌ ذليل؟"
تهتز أفكارك يمنة ويسرة فيتصدع رأسك وعقلك قائلا:

"أنتِ من ظلمتيني حينما تجاهلتيني, تجاهلت كل ما اعتقدتيه يومًا, كل ما بنيت, كل ما تمنيت, وكل هذا لأجلهم!"
ثم إنهم لا يرضون عنك, ثم إنك تتخلين عن المزيد من أفكارك, حتى جاء هذا اليوم الذي لم تجدي فيه ما تتخلي عنه, لأنك لم تجدي نفسك.
لقد أصبحتِ مجرد إنعكاسات لصورهم ولأفكارهم, ما يسعدهم يسعدك وما يغضبهم يغضبك, كرّستي عقلك وأفكارك لكي تتجنبين الصدام معهم, لأنك كنتِ خائفة على كرامتك.
ربما كانت كرامتك هي مبررك لتفعلين ما فعلتي, لربما تنازلت عن عقلك وقلبك وجعلتيهم يسلبون إرادتك متمنية أن يتركوا لكِ كرامتك..
هل تظن أنهم تركوا لي كرامتي.. إنهم لم يفعلوا يا صديقي, لم يفعلوا !.
*****
إنذار .. إنذار 
أنتِ تسقطين إلى الهاوية..
أنتِ الأن مستعدة أن تبيعي مبادئك وكل القيم التى تربيتي عليها لأول شخص يشعرك أنك ذا أهمية..
إنذار..
أنتِ مستعدة الأن أن تضحي بكل ما تمنيتِ, بيتٌ جميل, حياةٌ تبدو مستقرة, حياة رغم ما فيها من قهرُ لكِ إلا أن فيها من النعم الكثير .. أنتِ مستعدة أن تضحي بكل هذا لأجل من يعيد لقلبك النبض من جديد, ولعقلك الحرية, ولروحك البهجة..
إنذار.. 
هناك حبوط حاد فى الفردية لديكِ, أنتِ تشعرين أنهم أنتِ, وتشعرين أن نفسك تتلخص فيهم, لقد اندمجتِ معهم فأصبحتِ كتلة من التناقضات, يؤسفني أن أقول لكِ : "لقد ضللتِ الطريق" .. لأن هذا الجسد الكبير الذي وضعتِ نفسك فيه لم تعد لديكِ السيطرة عليه, لم يعد لديكِ القدرة على السير, فحينما تريدين التوجه يمينا يوجهوكِ يسارًا.. وأنتِ لا تقاومين, فالكثرة -كما تعليمين- تغلب الشجاعة.. أنتِ أيضا لم تعودي تقدرين على الكلام ولا النوم ولا الإعتراض ولا حتى الصراخ ... لا شئ كما تريدين, لا شئ كما انسان.
******
ذهِبَت ذات يوم لمحلٍ قد اشترت منه قميصًا رماديّ اللون, لكنها بعدما ارتديته فى البيت وجدت به قطعا مخفيًا, فقررت أن تعيده أو تستبدله, سلمت على صاحب المحل الذي بدا لها من الإنطباع الأول أنه سيتعاون معها ولن يخذل طلبها, وبالفعل حدّثها باحترام بالغ لم تعتاده فى الفترة الأخيرة, مخبرًا إياها أنه من حقها أن تعيد القميص المقطوع, واعتذر منها عن ذلك.. مختتمًا كلامه بـ " شكرا لتفهمك يا ست الكل"

أغلقت الباب ورائها وانفتح أمامها حوار شديد القسوة مع عقلها, أنا أنثى ؟ أنا ست الكل؟ أنا عندي حق ! أنا أعترض ؟ فأُحترم! أنا أريد .. أنا أجد!

إنذار ..
صعودٌ حاد فى الفردية قد تتخلى فيه الأنثى عن الجميع لترى نفسها بمفردها مرة أخرى جديرة بالإحترام, قد تصبح فى منتهى الأنانية, وقد تبيع حتى أعز ما تملك لتستعيد نفسها مرة أخرى.
*******
قالت له ذات يوم معاتبة : 
"إذا استمريتم فى نزع ثقتي بنفسي لن تعجبوا أبدًا بالشخص الذى سوف أتحوّل إليه, وسيكون أول المتضررين هو أنتم.. ! "
ولقد صدقت نبوءتها, وأصبحوا الأن يفتقدون تلك الفتاة الرقيقة التى قابلوها أول مرة, فتاة تعلم ما تريد وكيف تحققه, كيف تضحك ثم كيف تضحك من حولها, تعلم ما السبيل لإطلاق العنان لدموعها, وكيف تصبح بعد البكاء كسراج ينير لكل من حوله البهجة والسرور.
لقد أصبحوا الأن يفتقدون النسخة القديمة-الجميلة منها, والأدهى أنهم يخبروها بذلك..!
******
أتذكرون تلك الفتاة التى تهدمت الحوائط فوق رأسها؟
لقد ضاقت عليها الأرض بما رحبت, وضاقت عليها نفسها, وظنت أن لا ملجأ من الله إلا إليه.. فقالت بصوت لطالما تمنت أن يخرج من أعماقها, لكنها مهما حاولت كانت لا تستطيع, قالت : " يـــــــــــــا رب "
يااااه كم كانت تحتاج أن تقولها , فهي منذ ملّكت نفسها للناس وهي محرومة من صرخة أعماقها أن " يا رب"
قالت :
" يا رب وهبت نفسي إليك من جديد, فيا رب ردني إليك مردًا جميلا, واغفر لي جهلي بعظمتك, اغفر لي استبدالي ما هو أدني بالذي هو خير..
يا رب لقد تخليت عن نفسي يوم أن تخليت عن خضوعي إليك, واستسلام نفسي إليك..
يا رب لقد تهدمت إختياراتي الخاطئة فوق رأسي, فلا من ملكته أمري دونك رحم صراخي وأنقذني, ولا استطعت أن أعود للحياة بمجهودي الفرديّ..
إن قدراتي قد انهكت..
وحريتي قد سلبت..
وفرديتي معهم جُمعت..!
لكنك أنت العزيز القدير, اللهم فلمّ عليّ شملي من جديد, واجمع عليّ شتات أمري.. وردني إليك حتى لا ألجأ بضعفي وذنبي وقلة حيلتي إلا إليك, ولا أجد مخرجًا من الركام الذي أنا فيه إلا فى السعي لمرضاتك ..
فأنت الذي تعطي ..
وأنت الذي تمنع 
وأنت الذي ترحم 
وأنت الذي تغفر
وأنت الذي تنفع..
وأنت برحمتك من تضر , فلك الحمد أنهم لا يملكون لي ضرًا, فلن أعطيهم زمام أمري من جديد, ولك الحمد أنهم لا يملكون لي نفعاً فلن أطلب منهم العون أبدًا.."

ذرفت منها دموعًا بللت وجنتيها, شعرت بقوة هائلة لم تشعر بها منذ زمن بعيد, استطاعت أن تقف من بين الحطام, نفضت عن نفسها غبار أيامٍ أهانوها فيها, وتسلطوا فيها عليها, مسحت عن قلبها احساسها بالقهر..
ورغم ما سببوه لها من آلام إلا إنها لم تلقي بكامل اللوم عليهم, هي تعلمت الأن الحكمة جيدًا أنه " لا يستطيع أحدًا أن يركب ظهرك إلا إذا كنت منحنيًا"
وهي من انحنيت لهم ثم هم بعد ذلك ركبوا ظهرها, فلا هم أجبروها على الإنحناء, ولا هي أعطتهم الإذن ليقهروها..

كيف تصف شعورها الأن ؟؟
إنه التوازن بين القلب والعقل, هو الاعتزاز بالنفس دون كِبر, هو التواصل مع الناس مع حفظ المسافة والكرامة.
شعورُ غريب كانت تمتلكه منذ سنين لكنها نسيته, ونسيت كيف هي بائسةٌ حياتها بدونه, إنه عبادة الله وحده, إنه الحرية.








.
.
.
.
تمت بفضل الله